الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثمّ قال له فرعون: هل معك آية أُخرى، قال: نعم، فأدخل يده في جيبه ثمّ نزعها فأخرجها بيضاء مثل الثلج لها شعاع غلب على نور الشمس، وكان موسى أدم ثمّ أدخلها جيبه فصارت يدًا كما كانت.{قَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} يعنون أنّه يأخذ بأعين الناس بخداعه إيّاهم حتّى تخيّل إليهم العصا حيّة والأدم أبيض يري الشيء بخلاف ما هو به، كما قيل سحر المطر الأرض إذا جاءها فقطع نباتها من أصلها وقلب الأرض على البطن فهو يسحرها سحرًا والأرض مسحورة فشبه سحر الساحر به لتخيله إلى من سحره أنّه يري الشيء بخلاف ما هو به، ومنه قول بني الرمة في صفة السراب:
{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ} من القبط {مِّنْ أَرْضِكُمْ} مصر {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} هذا من قول فرعون للملأ ولم يذكر فرعون فيه كقوله: {الآن حَصْحَصَ الحق} [يوسف: 51] {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين * ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 51- 52] هذا من كلام يوسف ولم يذكر {قالوا أَرْجِهْ} أحبسه {وَأَخَاهُ} هارون ولا تقتلهما ولا يؤمن بهما، وقال عطاء: احبسه وهذا أعجب إليّ لأنّه قد علم أنه لا يقدر على حبسه بعد ما رأى الآيات من العصا واليد.{وَأَرْسِلْ فِي المدائن حَاشِرِينَ} يعني الشرطة وكانت له مدائن فيها السحرة عدة للأشياء إذا حزّ به أمر أرسل.{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} قرأها أهل الكوفة على التكثير وقرأ العامّة كل ساحر. والفرق بين الساحر والسحّار أن الساحر الذي لا يعلم والسحار الذي يعلم ولا يعلم. وقال المؤرخ: الساحر من سحره في وقت دون وقت، والسحار من قديم السحر.قال: فإن غلبهم موسى صدقناه على ذلك وعلمت أنه ساحر.قال ابن عباس وابن إسحاق والسدي: قال فرعون لمّا رأى من سلطان الله في العصا ما رأى: إنا لا نغالب موسى إلاّ بمَنْ هو مثله فأخذ غلمان بني إسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال لها الفرقاء يعلّمونهم السحر كما يعلّم الصبيان الكتابة في المكتب فعلّموهم سحرًا كثيرًا وواعد فرعون موسى موعدًا، فبعث فرعون إلى السحرة فجاء بهم ومعهم معلمهم فقال له ماذا صنعت؟ قال: قد علمتهم سحرًا لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلاّ أن يكون أمر من السماء فإنّه لا طاقة لهم به، ثم بعث فرعون الشرطي في مملكته فلم يترك في سلطانه ساحرًا إلاّ أتى به واختلفوا في عدد السحرة الذين جمعهم فرعون.وقال الكلبي: كانوا سبعين ساحرًا غير رئيسهم وكان الذين يعلّمونهم السحر رجلين مجوسيين من أهل نينوى، وقال كعب: كانوا اثني عشر ألفًا. قال السدي: كانوا بضعة وثلاثين. عكرمة: سبعين ألفًا، ابن المنكدر: ثمانين ألفًا فاختار منهم سبعة آلاف ليس منهم إلا ساحر ماهر ثم اختار منهم سبعمائة ثم اختار منهم سبعين من كبرائهم وعلمائهم، وقاله ابن جريج، فلمّا أجتمع السحرة {قالوا} لفرعون {إِنَّ لَنَا لأَجْرًا} أي جعلًا وثوابًا.{إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين قَالَ} فرعون {نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين} في المنزلة عندي.قال الكلبي: أوّل مَنْ يدخل عليّ وآخر مَنْ يخرج {قَالُواْ} يعني السحرة.{ياموسى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين} بعصيّنا وحبالنا.{قَالَ} موسى {أَلْقَوْاْ فَلَمَّا أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم} أي أرعبوهم وأفزعوهم {وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} وذلك أنّهم ألقوا حبالًا وعظامًا وخشبًا طوالًا فإذا هي حيّات كالجبال قد ملأت الوادي يأكل بعضهم بعضًا.{وَأَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} فألقاها {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ} تبتلع، ومَنْ قرأ تلقف ساكنة اللام خفيفة القاف فهو من لقف يلقف، ودليله قراءة سعيد بن جبير: تلقم من لقم يلقم.{مَا يَأْفِكُونَ} يُكذّبون، وقيل: يقلبون ويزوّرون على الناس فأكلت سحرهم كله فقالت السحرة: لو كان هذا سحرًا لبقت حبالنا وعصينا. فذلك قوله: {فَوَقَعَ الحق} أي ظهر.قال النضير بن شميل: فوقع الحق أي فزعهم وصدّعهم كوقع الميقعة {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من السحر {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ} وبطل ما كانوا يعملون {وانقلبوا صَاغِرِينَ} ذليلين ومقهورين.{وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} لله حيث عرفوا أنّ ذلك أمر سماوي وليس سحرًا، وقيل: ألهمهم الله ذلك، وقال الأخفش: من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} فقال فرعون: إياي تعنون فقالوا: {رَبِّ موسى وَهَارُونَ}.قال عطاء: فكان رئيس السحرة بأقصى مدائن مصر وكانا أخوين فلمّا جاءهما رسول فرعون قالا لأُمّهما دلّينا على قبر أبينا فدلتهما عليه فأتياه فصاحا باسمه فأجابهما فقالا: إن الملك وجه إلينا رسولًا أن نقدم عليه، لأنّه أتاه رجلان ليس معهما رجال ولا سلاح ولهما عزّ ومنعة وقد ضاق الملك ذرعًا من عزّهما، ومعهما عصا إذا ألقياها لا يقوم لهما شيء تبلغ الحديد والحجر والخشب. فأجابهما أبوهما: انظرا إذا هما ناما فإنّ قدرتما أن تسلا العصا فسلاّها فإنّ الساحر لا يعمل سحره إذا نام، وإن عملت العصا وهما نائمان فذلك أمر ربّ العالمين، ولا طاقة لكما به ولا الملك ولا جميع أهل الدنيا، فأتاهما في خفية وهما نائمان ليأخذا العصا فقصدتهما العصا قاله مقاتل.قال موسى للساحر الأكبر: تؤمن بيّ إن غلبتك فقال لآتينَ بسحر لا يغلبه سحر ولئن غلبتني لأؤمنن بك وفرعون ينظر {قَالَ} لهم فرعون حين آمنوا {آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ} صنيع وخديعة {مَّكَرْتُمُوهُ} صنعتموه أنتم وموسى {فِي المدينة} في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع.{لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا} بسحركم {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} ما أفعل بكم.{لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} وهو أن يقطع من شق طرفا قال سعيد بن جبير: أوّل مَنْ قطع من خلاف فرعون {ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} على شاطئ نهر مصر {قالوا} يعني السحرة لفرعون {إِنَّا إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} راجعون في الآخرة {وَمَا تَنقِمُ مِنَّا} قرأ العامّة بكسر القاف.وقرأ الحسن وابن المحيصن بفتح القاف وهما لغتان نقَم ينقَم ونقم ينقِم.قال الشاعر: وقال الضحاك وغيره: يعني وما يطعن علينا. قال عطاء: ما لنا عندك من ذنب وما ارتكبنا منك مكروهًا تعذّبنا عليه {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا} ثمّ فزعوا إلى الله عز وجل فقالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ} اصبب {عَلَيْنَا صَبْرًا} أُصبب علينا الصبر عند القطع والصلب حتّى لا نرجع كفارًا {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} واقبضنا إليك على دين موسى، فكانوا أول النهار كفارًا سحرة وآخره شهداء بررة. اهـ.
|